مسرحية «عيشة ومش عيشة»: قراءة أنثروبولوجية في اليومي الاجتماعي بين العنف والواسطة والهجرة

لبابة صبري

المقدمة

تمثل مسرحية «عيشة ومش عيشة» نموذجًا فنيًا واجتماعيًا بارزًا في توظيف المسرح كأداة لتفكيك البنية الاجتماعية الفلسطينية المعاصرة. في هذا العمل، يلتقي اليومي بالسياسي، والسخرية بالتراجيديا، ويتحوّل الأداء الفردي إلى تعبير جماعي عن أزمات مجتمع يعيش مأزقًا بنيويًا مستمرًا. المسرحية التي أدار إنتاجها محمد صالح إغبارية وأخرجها هشام سليمان وحنا شمّاس (2025)، عالجت قضايا محورية مثل العنف، الواسطة، الهجرة، التدخل في الخصوصيات، وتحولات الزواج في زمن النيوليبرالية والرقمنة.

يسعى هذا المقال إلى قراءة المسرحية قراءة أنثروبولوجية معمّقة، تستند إلى نظريات متعددة في حقل الأداء والدراسات الثقافية، أبرزها: نظرية الدراما الاجتماعية لفكتور تِرنر (Turner, 1982)، مفهوم الرأسمال عند بيير بورديو (Bourdieu, 1986)، نظرية عرض الذات عند إرفينغ غوفمان (Goffman, 1959)، مفهوم الوصف الكثيف عند كليفورد ڤيرتز (Geertz, 1973)، نظرية الأرشيف والمخزون الأدائي لديانا تايلور (Taylor, 2003)، إضافة إلى أبحاث علم النفس الاجتماعي حول تأثير المتفرّج (Darley & Latané, 1968). من خلال هذه الأدوات النظرية، يمكن النظر إلى المسرحية باعتبارها مختبرًا أنثروبولوجيًا مفتوحًا على تفاصيل الحياة اليومية التي تكشف بدورها عن ديناميات السلطة والهيمنة والعنف البنيوي.

المسرح كحقل أنثروبولوجي

إنّ المسرح في جوهره، وفق ريتشارد شكنر (Schechner, 2013) هو ممارسة لإعادة تمثيل الثقافة، أي أنه حقل أنثروبولوجي يُتيح قراءة المجتمع من خلال أدائه لنفسه. في مسرحية «عيشة ومش عيشة»، يتم تحويل تفاصيل تبدو عابرة من الحياة اليومية، مثل مشاهد مطعم الحمص أو طوابير التوظيف أو جلسات التدخل في الخصوصيات، إلى رموز ثقافية مشبعة بالمعنى. هنا تبرز قيمة منهج «الوصف الكثيف» (Geertz, 1973) الذي يُمكّننا من قراءة هذه التفاصيل كإشارات محمّلة بالمعاني السياسية والاجتماعية. فالأغاني الساخرة والحركات المبالغ فيها هي علامات أدائية تعكس أنماطًا راسخة من السلوك والوعي الجمعي.

العنف واللامبالاة – دراما اجتماعية متكررة

إنّ من أكثر مشاهد المسرحية صدمة هو مشهد القتل في الشارع، حيث يُقتل أحد الأشخاص أمام الجميع. يبدأ رد فعل الناس بالانفعال والتوتر، ثم يتحول تدريجيًا إلى اللامبالاة، حتى تصل الأمور إلى حد تجاهل الجثة نفسها، بينما ينشغل الشرطي بمديح مطعم الحمص. يمكن تحليل هذا المشهد من خلال نظرية الدراما الاجتماعية عند فكتور تِرنر (Turner, 1982)، التي تتألف من مراحل: الخرق الذي يتمثل في فعل القتل، والأزمة التي تلي انكشاف الحدث أمام الجمهور، ثم محاولة التفاوض أو إعادة التوجيه حيث يتم حرف الانتباه نحو الطعام، وأخيرًا فشل إعادة الدمج الذي يتجسد في استمرار القبول الضمني للعنف بوصفه أمرًا عاديًا.

يُظهر هذا المسار كيف تحوّل العنف من حدث استثنائي إلى جزء من البنية الاجتماعية. كما يمكن قراءة المشهد في ضوء نظرية تأثير المتفرّج (Darley & Latané, 1968)، التي تشير إلى أنّ تزايد عدد الشهود يقلل من احتمال تدخل أي فرد لإنقاذ الموقف. المسرحية تقدّم هذه الظاهرة بصورة ساخرة لتكشف أنّ المشكلة لا تكمن فقط في الأفراد، بل أيضًا في مؤسسات الدولة التي تعيد توجيه الانتباه نحو قضايا تافهة بدل مواجهة جوهر الأزمة.

الواسطة والرأسمال الاجتماعي

تتطرّق المسرحية إلى قضية التوظيف التي تتحكم بها الواسطة، حيث يُستبعد الأكفاء وتُمنح الفرص لأصحاب العلاقات الشخصية. هذه الظاهرة تُضيء بشكل مباشر على مفهوم الرأسمال الاجتماعي عند بورديو (1986)، الذي يوضح كيف يمكن للشبكات الاجتماعية والصلات القرابية أن تتحول إلى موارد تفوق قيمة المؤهلات التعليمية أو السمعة الرمزية. في هذا السياق، تغدو الواسطة رأسمالًا اجتماعيًا يهيمن على غيره من أشكال الرأسمال.

إنّ أغنية «واسطتي» التي يؤديها الممثلون تُحوّل هذه الظاهرة إلى خطاب ساخر يعري بنيتها. يمكن النظر إلى هذه الأغنية – وفق ديانا تايلور (2003) – باعتبارها «مخزونًا أدائيًا» يعيد إنتاج خبرة جماعية يعيشها المتفرجون يوميًا. تمثّل الأغنية توثيقًا شفهيًا وأدائيًا لتجربة الظلم الاجتماعي الذي يمارَس من خلال الواسطة.

التدخل في الخصوصيات – عرض الذات الغوفماني

يقدّم تكرار عبارة «شو شو شو شو… معاشك؟ وين رايح؟» في أكثر من مشهد صورة كاريكاتورية عن التدخل المفرط في حياة الآخرين. يمكن فهم هذا المشهد عبر نظرية عرض الذات عند غوفمان (1959)، حيث يعيش الأفراد وكأنهم على مسرح دائم، يؤدون أدوارهم أمام جمهور متخيَّل من الجيران والأقارب. هذا النمط يخلق ما يشبه الرقابة الأفقية، حيث يصبح كل فرد رقيبًا على الآخر.

تُحوّل المسرحية هذا التدخل إلى أداة للسخرية، لتكشف أنّ المجتمع الذي يتجاهل الأزمات الكبرى يكرّس طاقته في مراقبة تفاصيل الحياة الشخصية. وبهذا، فإن الأداء المسرحي يُعرّي آلية من آليات الهيمنة الاجتماعية التي تُعيد إنتاج السلطة عبر العلاقات اليومية لا عبر المؤسسات الرسمية فقط.

الهجرة والعنف البنيوي

تظهر الهجرة في المسرحية كحلم معلّق في مشهد رمزي بالغ الدلالة، يرتدي الممثلون شناطي السفر على رؤوسهم مثل الطواقي، ويظهرون وجوههم مكشوفة. هنا تتحول حقيبة السفر، التي عادة ما ترمز إلى الرحيل، إلى عبء مادي ومعنوي يُثقل الرأس. هذا الأداء يفضح ما وصفه يوهان غالتونغ (Galtung, 1969) بالعنف البنيوي، حيث تعيش الشخصيات في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، من بطالة وغياب للعدالة ووجود سوق سوداء.

تكشف المسرحية أنّ قرار الهجرة هو نتيجة طبيعية لبنية اجتماعية – اقتصادية لا تتيح بدائل حقيقية. بهذا، تُحوّل المسرحية معضلة الهجرة إلى كوميديا سوداء تجسّد العبثية التي يعيشها جيل بأكمله.

الزواج ومعايير السوق والرقمنة

تتناول المسرحية قضية الزواج من خلال ربطها بالمعايير الاقتصادية والرقمية الحديثة. فمن جهة، يُعرض الزواج كخيار تحدده الثروة والجاه وامتلاك المطاعم، ومن جهة أخرى يظهر تأثير الفضاء الرقمي حين تعتبر إحدى الشخصيات أنّ عدد المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي معيارًا أساسيًا لاختيار الشريك.

يعكس هذا التحول اندماج الرأسمال الاقتصادي مع الرأسمال الرمزي في صورته الرقمية. يمكن اعتبار هذه الظاهرة – وفق بورديو (1986) – بمثابة إعادة تشكيل لمجال الزواج بوصفه سوقًا اجتماعية تحكمها معايير جديدة. في الوقت نفسه، نجد صدى لتحليل غوفمان (1959) الذي يرى أنّ الأفراد يؤدون هوياتهم أمام جمهور، لكن المسرحية تضيف بُعدًا جديدًا، حيث بات هذا الجمهور رقميًا، ومقياسه هو التفاعل وعدد المتابعين.

الأغنية كأرشيف أدائي

تمثّل الأغنية في المسرحية بكونها أداة أرشيفية وأدائية توثق الذاكرة الجماعية؛ حيث أنّ أغنيتا «واسطتي» و«شو شو شو شو» هي نصوص ثقافية تؤدي وظيفة الأرشيف الشفهي، وتحوّل السخرية إلى أداة مقاومة رمزية. يُعتبر الأداء الغنائي «مخزونًا» – وفق تايلور (2003) – يعيد إنتاج الذاكرة الثقافية ويواجه محاولات التهميش. وتصبح الأغنية في المسرحية وسيلة لفضح البنى الاجتماعية المختلة وتقديم نقد شعبي مباشر.

بين المسرح المقاوم والأنثروبولوجيا التطبيقية

ينتمي هذا العمل المسرحي – من خلال تقنياته وأسلوبه الساخر – إلى ما يُعرف بمسرح المقاومة، أي المسرح الذي يواجه السلطة عبر تعرية بنيتها وتقديم صور بديلة للواقع، كما تدخل المسرحية في إطار إنتاج معرفة بديلة تُتيح للجمهور التفكير في قضاياه اليومية بوعي نقدي جديد.

على المستوى الأنثروبولوجي، يمكن اعتبار «عيشة ومش عيشة» نموذجًا للأنثروبولوجيا التطبيقية، حيث تسهم في رفع الوعي الجمعي وتفكيك البنى الاجتماعية التي تغذي العنف والواسطة والاغتراب. وبهذا، يصدق قول شكنر (2013) بأن الأداء هو ممارسة تغييرية تحمل إمكانات اجتماعية وسياسية.

الخاتمة

تُبرز مسرحية «عيشة ومش عيشة» كيف يمكن للفن المسرحي أن يتحول إلى مختبر أنثروبولوجي يعرّي تفاصيل الحياة اليومية، ويكشف البنى العميقة التي تحكمها. عبر تحليل مشاهد القتل واللامبالاة، الواسطة، الهجرة، التدخل في الخصوصيات، والزواج، نرى أنّ المسرحية تقدم صورة مركبة عن مجتمع مأزوم. كما يُعاد إنتاج العنف عبر اللامبالاة المؤسسية، و تكشف الواسطة عن مركزية الرأسمال الاجتماعي، وتظهر الهجرة كحلم مستحيل، بينما يتداخل الاقتصاد مع الرقمنة ليعيد تشكيل معنى الزواج. وفي النهاية، تتحول الأغنية إلى أرشيف أدائي يحفظ ذاكرة جماعية ويعيد صياغتها في شكل مقاومة رمزية.

بهذا، تؤكد المسرحية أنّ «العيش» هو سيرورة اجتماعية – ثقافية معقدة، وأنّ «مش العيشة» هو الوجه الآخر للحياة حين تتحول القيم إلى أعباء، والسلطة إلى تفاصيل يومية.

المراجع

Bourdieu, P. (1986). The forms of capital. In J. Richardson (Ed.), Handbook of Theory and Research for the Sociology of Education (pp. 241 – 258). Greenwood.
Darley, J. M., & Latané, B. (1968). Bystander intervention in emergencies: Diffusion of responsibility. Journal of Personality and Social Psychology, 8 (4), 377 – 383.
Geertz, C. (1973). The interpretation of cultures. Basic Books.
Goffman, E. (1959). The presentation of self in everyday life. Anchor Books.
Schechner, R. (2013). Performance studies: An introduction (3rd ed.). Routledge.
Taylor, D. (2003). The archive and the repertoire: Performing cultural memory in the Americas. Duke University Press.
Turner, V. (1982). From ritual to theatre: The human seriousness of play. PAJ Publications.
Galtung, J. (1969). Violence, peace, and peace research. Journal of Peace Research, 6 (3), 167 – 191.

الاتاحة נגישות