بقلم: المحامي علي حيدر
في أرض الحواجز العسكرية والجدران الاسمنتية والأسيجة الحديدية تجري وتدور احداث مسرحية ” يحدث كل يوم خميس”، تأليف الدكتور أيمن إغبارية وإخراج المخرج منير بكري وتمثيل الفنانة روضة سليمان والفنان ميلاد غالب من انتاج مسرح وسينماتك ام الفحم .
المسرحية تسلط الأضواء على قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية وديناميكيات التفاعل المباشر والتمثيلات المتخيلة بين فلسطيني عام 67 وفلسطيني عام 48 وتظهر كيف ينظر كل منهما الى الآخر وكيف ينظر كل منهما الى ذاته أيضا، في الوقت الذي يرضخ كلاهما الى نفس نظام الحكم الغريب والمتسلط والظالم، كما انهما يرضخان ويعيشان في ظل ثقافة شعبية معطوبة ومشوشة تسودها تناقضات جوهرية وازمات قيمية وتخبطات وجودية وموتوريه دائمة. ثقافة تكرس اضطهاد المرأة وتقمع حرياتها وتتجاهل وتهمل شرائح شبابية واسعة في المجتمع من الذين يضطرون للتسول والخضوع ويحرمون من الحق بالحياة بحرية وكرامة وحب.
المسرحية كما يقول الدكتور أيمن إغبارية في توطئته لها هي:” عن “عطاف” و”ربيع”:” عطاف امرأة من الداخل الفلسطيني في العقد الرابع من عمرها. امرأة عزباء، بسيطة لا يراها أحد، لا تنتظر شيئا مهما ولا شيء مهم ينتظرها. لكنها تضج بأحلام الحب والولادة والانعتاق. “ربيع شاب من مناطق 1967 في العقد الثاني من عمره. شاب مارس التسول على الإشارات الضوئية في الماضي القريب، جاع وتشرد، اذلته الدنيا ودعكته بالتجارب المرة، لكنه ما زال قادرا على الحياة بكامل انسانيته: صادقا- كاذبا، خائفا- شجاعا، ومنعزلا- متواصلا. “عطاف” و”ربيع” يلتقيان كل خميس عند السياج، ليكملا قصة حبهما الممنوع والمبتور…”.
ان التأمل في معاناة كل من “ربيع” و”عطاف” وتتبع أسباب تعثر قصة حبهما في ظل السواد القاتم للجدران العازلة والمتعددة بأشكالها وصورها المختلفة، (ليس الجدران والاسيجة المادية فحسب وانما الجدران والحدود النفسية والاجتماعية والسياسية والجنادرية والعمرية)، تتيح لنا الفرصة لطرح الأسئلة الأساسية حول الذات والآخر والسلطة والمقاومة والهوية والبحث عن معنى والثقافة وحول الفرد والجماعة والوطن وحول القيم التي تعزز انسانيتنا والعمالة والخيانة والحياة والموت.
المسرحية تستخدم كلا من: الحوار والمونولوج كوسيلتين للتواصل مع الذات والآخر من خلال السرد والتعبير. كل واحد من الصوتين في المسرحية يعتبر صوتا صافيا يمثل ويقارع وينقد مجموعة انتماء كاملة، كشعاع ينطلق من شمس ساطعة. وفي هذا السياق، تسير المسرحية على خطى ديستويفسكي في كل ما يتعلق بأهمية الحوار الى “الذات” والآخر والطرف الثالث. كما انه لا يمكن “للقارئ الحساس” للمسرحية بحسب تعبير اورهان باموق، الا ان يعتبر مارتين بوبر، تزفيتان تودوروف، باختين، عمنوئيل لفيناس وطه عبد الرحمن مرجعيات معرفية تساعدنا وتمكننا من فهم وتحليل وتفكيك “المبدأ الحواري”، “الحوار افقا للتفكير”، ” الحوار ووجه المحاور” الخ. كما ان الحديث للذات بصوت عال وبوعي يشير الى ذكاء شخصيات المسرحية التي تراجع سلوكياتها وتحاول استرجاع ومفهمة وتجريد ما تواجهه وبلورة استراتيجيات عمل بعد فحص بدائل وخيارات محتملة، وهذه الجوانب من المسرحية تستدعي وتتطلب دراسة معمقة لا يمكن ايفاؤها حقها في هذه العجالة.
عدا عن الجدران والاسيجة التي تملئ منصة المسرح بكثافة، يحضر في اعلى الجانب الخلفي من الجدار، في منطقة الضفة الغربية، خزان ماء بلاستيكي ( كان ربيع يجلس عليه أحيانا ليرى البحر لكنه لم يتمكن من رؤيته، بل مكنه ذلك من رؤية إشارة المرور)، وفي مقدمة المسرح في الداخل الفلسطيني حنفية ماء يجري بها الماء بسهولة. في هذا المكان اعتاد كل من “ربيع” و”عطاف” الالتقاء، وكأننا امام قصة حب قديمة يلتقي العاشقان فيها عند نبع ماء كرمز للحيوية والحياة والتدفق، الشيء الذي يذكر بلقاء النبي موسى ببنات النبي شعيب ولكن في قصة ربيع وعطاف يرد القادم ولا يرحب به الا من قبل “عطاف” التي تلفه بالرحمة والمودة والحب والحنان رغم كل المعارضة من عائلتها، كما انه يمنحها الثقة والامل والقوة. موقف اخر اثار الانتباه ويدعو للتأويل هو الحلم الذي حلمته عطاف بأنها تطبخ في طنجرة عرس كبيرة وكانت قد خلطت الدواء بالطبيخ، وقد اصطف الناس من معارفها كل يمد صحنه اليها ليتلقى من هذا الطعام بمن فيهم “ربيع”، فالجميع يأكل من نفس القدر ويتوجع من نفس المواجع والالام.
في نهاية المسرحية يقرر ربيع وعطاف التحرر والانعتاق من كل المعيقات الداخلية والخارجية والتمرد على كل العادات والتقاليد المتعارف عليه وتحدي واقعهما. وبذلك تنتصر المسرحية للحوار والحب والتواصل والتوق للحياة الطبيعية البسيطة وتتمرد وتنتفض وتهجو القطيعة والتنميطات الاجتماعية والنظرات الفوقية والسلطة والخوف والعمالة والضحوية الانهزامية. في الوقت الذي توجه فيه المسرحية سهام النقد اللاذع ضد الاحتلال فإنها توجه سهام النقد أيضا صوب ثقافتنا واسهامنا في قمع بعضنا البعض وعدم التعاطي مع اهدافنا وغاياتنا كشعب بمسؤولية وعناية كافية، بل نعيش وخصوصا نحن فلسطينيي الداخل في ظل معتقدات موهومة ومتخيلة.
ان المسرحية تصور لنا الواقع السياسي بدقة وتدعونا للتفكير والعمل على ترتيب علاقتنا كشعب فلسطيني قد شتت وهجر وتمزق ولكن من الضروري ان نعمل بمسؤولية على تأكيد وحدة المصير والمستقبل واسقاطات ذلك على حياة الناس العاديين وعلى احلامهم البسيطة وحياتهم اليومية. كما انها تدعونا للتفكير وإعادة التفكير بواقعنا وكيف يمكن تغييره وبذلك يجسد المؤلف والمخرج والممثلون دورهم كمثقفين عضويين ومتداخلين بحسب تعبير أنطونيو غرامشي ويترتب علينا جميعا تحمل المسؤولية من اجل إيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية والتحديات الإنسانية.
فعلا مسرحية رائعة تأليفا واخراجا وتمثيلا.